الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
معناه: فلما رجت أن تشرب. ونزلت هذه السورة في حاطب بن أبي بلتعة، لما أراد رسول الله صلى الله عليه أن يغزو أهل مكة، قدمت عليه امرأة من موالي بني المطلب، فوصلها المسلمون، فلما أرادت الرجوع أتاها حاطب بن أبي بلتعة، فقال: إني معطيك عشرة دنانير، وكاسيك بردا على أن تبلغي أهل مكة كتابا، فكتب معها، ومضت تريد مكة، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليهما بالخبر، فأرسل عليًّا والزبير في إثرها، فقال: «إن دفَعَتْ إليكما الكتاب وإلا فاضربا عنقها» فلحقاها، فقالت: تنحيا عنى، فإني أعلم أنكما لن تصدقاني حتى تفتشاني، قال: فأخَذَت الكتاب، فجعلته بين قرنين من قرونها، ففتشاها، فلم يريا شيئا، فانصرفا راجعين، فقال على للزبير: ماذا صنعنا؟ يخبرنا رسول الله أن معها كتابا ونصدقها؟ فكرّا عليها، فقالا: لتخرِجِنَّ كتابك أو لنضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجت الكتاب.وكان فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة:أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم مع أشياء كتب بها، فدعا رسول الله صلى الله عليه بحاطب، فأقرّ له، وقال: حملني على ذلك أن أهلي بمكة وليس من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يذب عن أهله، فأحببت أن أتقرّب إليهم ليحفظوني في عيالي، ولقد علمت أن لن ينفعهم كتابي، وأن الله بالغ فيهم أمره، فقال عمر بن الخطاب: دعني فأضرب عنقه، قال: فسكت النبي صلى الله عليه، ثم قال: «وما يدريك لعل الله قد نظر إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».قال الفراء: حدثني بهذا حِبان بإسناده.وقوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ...}. مِن صلة الأولياء، كقولك: لاتتخذنّه رجلا تلقى إليه كلّ ما عندك.وقوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ...}. إِن آمنتم ولإن آمنتم، ثم قال عز وجل: {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي...} فلا تتخذونهم أولياء.{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ...}. قرأها يحيى بن وثاب: {يُفصِّل بينكم}، قال: وكذلك يقرأ أبو زكريا، وقرأها عاصم والحسن يَفْصل، وقرأها أهل المدينة: {يُفْصَل}.{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قول إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}وقوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...}. يعنى حاطبا، {فيهم} في إبراهيم. يقول: في فعل إبراهيم، والذين معه إذا تبروءا من قومهم. يقول: ألا تأسيت يا حاطب بإبراهيم؛ فتبرأ من أهلك كما برئ إبراهيم؟ ثم قال: {إِلاَّ قول إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} أي: قد كانت لكم أسوة في أفاعيلهم إلاّ في قول إبراهيم: لأستغفرن؛ فإِنه ليس لكم فيه أسوة.وقوله: {إِنَّا بُرَءاؤاْ مِّنْكُمْ...}. إن تركتَ الهمز من برآء أشرت إليه بصدرك، فقلت: بُرَاء. وقال الفراء: مدّة، وإشارة إلى الهمز، وليس يضبَط إلاّ بالسمع، ولم يجرها. ومن العرب من يقول: إِنا بِراءٌ منكم، فيجرى، ولو قرئت كذلك كان وجها.وقوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا...}. أي: فقولوا هذا القول أنتم، ويقال: إنه من قيل إبراهيم عليه السلام وقومه.{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}وقوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً...}. لا تظهَرنّ علينا الكفار فيروا أنهم على حق، وأنّا على باطل.{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً...}.يقول: عسى أن ترجع عدواة بينكم إلى المودة، فتزوج النبي صلى الله عليه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فكانت المصاهرة مودة.{لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}وقوله: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ...}.هؤلاء خزاعة كانوا عاقدوا النبي صلى الله عليه ألا يقاتلوه، ولا يخرجوه، فأمر النبي صلى الله عليه ببرهم، والوفاء لهم إلى مدة أجلهم، ثم قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ...} أن تنصروهم، يعنى الباقين من أهل مكة.{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}وقوله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ...}.يعني: فاستحلفوهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه لما صالح أهل مكة بالحديبية فلما ختم الكتاب خرجت إليه سُبَيْعة بنت الحارث الأسلمية مُسْلِمَةً، فجاء زوجها فقال: ردَّها علىَّ فإِن ذلك في الشرط لنا عليك، وَهذه طينة الكتابة لم تجفف، فنزلت هذه الآية: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ...}.فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه: ما أخرجكِ إلينا إلا الحرص على الإسلام والرغبة فيه، ولا أخرجك حدث أحدثتِه، ولا بغض لزوجك، فحلفتْ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه زوجها مهرها، ونزل التنزيل: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ...}.من كانت له امرأة بمكة أبت أن تُسلم فقد انقطعت العصمة فيما بينها وبين زوجها، ومن خرج إلى المسلمين من نسائهم مُسْلمةً، فقد انقطعت عصمتها من زوجها الكافر، وللمسلمين أن يتزوجوها بغير عدة.وقوله: {وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ...}.يقول: اسألوا أهل مكة أن يردوا عليكم مهور النساء اللاتي يخرجن إليهم منكم مرتدات، وليسألوا مهور من خرج إليكم من نسائهم.وقوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ...}.قرأها يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة مخففة، وقرأها الحسن: {تُمسّكوا}، ومعناه متقارب.والعرب تقول: أمسكت بك، ومسكت بك، وتمسّكت بك.{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}وقوله: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ...} أعجزكم.وهى في قراءة عبد الله: {وإن فاتكم أحد من أزواجكم}، وأحدٌ يصلح في موضع- شيء، وشيء يصلح في موضع أحد في الناس، فإذا كانت شيء في غير الناس، لم يصلح أحد في موضعها.وقوله: {وَإِن فَاتَكُمْ...}.يقول: أعجزكم إن ذهبت امرأة فلحقت بأهل مكة كافرة، وليس بينكم وبينهم عهد فعاقبتم، يقول: فغنمتم، فأعطوا زوجها مهرها من الغنيمة قبل الخمس.حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء قال: حدثني قيس بن الربيع عن الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق أنه قرأ {فعاقبتم}، وفسرها: فغنمتم، وقرأها حميد الأعرج: {فعقّبتم} مشددة، وهى كقولك: تصعّر، وتصاعر في حروف قد أنبأتك بها في تآخى: فعلت، وفاعلت.{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}وقوله: {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ...}.قرأها السُّلَمي وحده: {ولا يقتّلن أولادهن}، وذكر أن النبي صلى الله عليه لما افتتح مكة قعد على الصفا وإلى جنبه عمر، فجاءه النساء يبايعنه؛ وفيهن بنت عتبة، فلما قال رسول الله صلى الله عليه: {لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} يقول: «لا تعبدن الأوثان، ولا تسرقن، ولا تزنين». قالت هند: وهل تزني الحرة؟ قال: فضحك عمر، ثم قال: لا، لعمري، ما تزني الحرة. قال: فلما قال: «لا تقتلن أولادكن»، هذا فيما كان أهل الجاهلية يئدون، فبويعوا على ألا يفعلوا، فقالت هند: قد ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا.وقوله: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ...}.كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدى منك. فذلك البهتان المفترى.{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}وقوله: {لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ...}.يقول: من نعيم الآخرة وثوابها، كما يئس الكفار من أهل القبور، يقول: علموا ألا نعيم لهم في الدنيا، وقد ماتوا ودخلوا القبور.ويقال: كما يئسَ الكفار من أصحابِ القبورِ: من ثواب الآخرة ونعيمها. اهـ.
|